وليمة

View Original

قصص من عشبة برية - كرات الحويرنة في الغربة

آذار ٢٠٢٠ - صفحة "مطبخ غربة" على الفيسبوك
صورة على صفحة "مطبخ غربة" مع التعليق "احزروا شو الطبق - مرة حماس" أطلقت موجة من المشاركات والاجوبة. كوني عضوة في الصفحة ومغرمة بالأعشاب البرية، قمت بالاجابة سريعاً كأنني في امتحان. الحويرنة.

الحويرنة في الغربة

لم ابتعد عن بلدي كثيرا. ذهبت إلى دبي. وفي غربتي وجدت صفحة على الفيسبوك اسمها مطبخ غربة، تتكون من تسعة عشر ألف عضو، جميعهم عرب مغتربين. امتلأت الصفحة بصور أطباق عربية يحضرها الأعضاء وينشرون الصور بفخر ويتناقشون بحماس عن الحلول المبتكرة للصعوبات وبدائل لنواقص مطبخ عربي في بلد غريب. وكوني مغتربة مثلهم، غصت في المحتوى وشاركت بالاسئلة والاجوبة والإيموجي ذو "الريالة النازلة". اعجبتني عفوية الصفحة وضحكت على الرومانسية الزائدة والنوستالجيا الواضحة في الكلام عن أطباق تقليدية نشتاق اليها ونحن بعيدون عن بلادنا. وسرحت في نفس الرومانسية افكر بالأجبان البيضاء المباركة بحبات البركة، ومهارة البائع في نحت حبات الفلافل المثالية وبائع الشاورما الساموراي و أسياخ اللحم والدجاج المتألقة تحت احمرار النار والقطر الذي يبقبق فوق سدر الكنافة وقرمشة التمرية المقلية وخبز الطابون المشبع بزيت البصل والسماق ولذة الأعشاب الموسمية الحنونة التي تقطفها الجدّات... تنهدت... ليست الغربة عن الأوطان فقط. تضخمت غربتي وانا احلم بهذه الورقة وبحِدّة طعمها وتمنيت لو تتوفر لدي لكي استمتع بخلطة الحويرنة مع اللبن وزيت الزيتون في الصباح بجانب كأس شاي حلو أو في الظهر بجانب المشاط المقلي.

ابتدأ حبي للحويرنة في بيوت غير بيتي. بيت خالي وبيت جدتي وبيت اهل صديقتي...الخ.كان حب أعمى وسطحي. لا اعرف شيء عنها غير اسمها واللذّة التي أشعر بها عند أكلها. وبعد سنين قررت أن أطوّر علاقتي معها وتعلمت أنها من عائلة الخردل. Sisymbrium officinale هو اسمها العلمي. Hedge Mustard بالانجليزية. وهي ورقة برية تنبت في الأراضي الخربة وضفاف الشوارع. وكما هو متوقع، طعمها مر وحاد مثل حب الخردل. وتحضيرها ليس سهلاً. يجب الاستعانة بالظاهرة الاسموزية بواسطة وضع الملح لاستخراج الماء من الأوراق، وهكذا تخرج المرارة الغير مرغوبة. ثم تخلط مع اللبن ويضع فوقها زيت الزيتون (مثل صحن اللبنة) و تغمس بالخبز العربي الرقيق.

خلال زيارة لي إلى الأردن في شهر شباط، وهو في موسم الحويرنة التي تنمو بعد هطول الأمطار، تعلمت طريقة جدتي في تنظيف وتخزين الحويرنة. فسرعان ما إن ابتدأ الموسم تقوم جدتي بتحضير بعض الأوراق مع اللبن للأكل والمتبقي تقسمه على شكل كرات وتجمدها في البراد للاستهلاك لاحقاً.

ذهبت الى السوق وجلبت أكياس عديدة من الحويرنة وغسلت وعجنت وعصرت وعبأت فراغ الغربة بكرات خضراء مصطفة في جارور البراد.

ملخص مفيد للعملية:
تزال الأوراق التالفة (الزهرة توفر فهي ألذ جزء)
تفرم أوراق الحويرنة الصالحة
تغسل بالماء والخل غسلتين
يُضع عليها الملح وتترك لكي تفرز الماء
تعجن الأوراق قليلاً وتترك ليخرج المزيد من الماء
تعصر جيداً
تشكل كرات معصورة بحجم كف اليد (كل كرة تكفي لكيلو واحد من اللبن)
تخلط كرة واحدة مع كيلو لبن للاستهلاك الفوري ويخزن الباقي مجمداً في البراد

نعم الغربة قاسية والروح المغتربة تشبه الشجرة المقتلعة من أرضها ولكن مطبخ الغربة قد يكون أجمل مكان في بلد غريب. مكان تبكي فيه النوستالجيا، يبتكر فيه اليأس، تتباهى فيه الهوية، وتستقر فيه الروح المشتاقه. تنهدت… اساساً الغربة عن الأوطان فقط لكن الأوطان قد تكون كل الأشياء التي نحس بالغربة عند بعدنا عنها.